يعتبر مؤتمر باندونغ للدول الافروآسيوية الذى عقد قبل خمسين عاما اول مؤتمر دولى تغيب عنه الدول الغربية فى تاريخ العالم. ونتجت عن المؤتمر روح باندونغ والمبادئ العشرة الخاصة بالعلاقات الدولية والتى تعتبر المبادئ الجديدة لاقامة العلاقات الدولية الحديثة. وسيبقى هذا المؤتمر خالدا فى ذاكرة التاريخ باعتباره حدثا سياسيا دوليا مهما فتح صفحة جديدة فى التاريخ.
1- يرمز مؤتمر باندونغ الى نهوض العالم الثالث، وهو ما غير الى حد كبير الملامح السياسية العالمية وهيكل العلاقات الدولية حينذاك.
عقد المؤتمر باقتراح ومشاركة الدول المستقلة حديثا وهى المرة الاولى فى تاريخ العالم، لان كافة المؤتمرات الدولية التى عقدت قبل ذلك كانت بمبادرة وترؤس ومشاركة الدول القوية الكبرى خاصة الدول الغربية. ولم تتح للدول الضعيفة الصغيرة فرصة المشاركة فيها. وكان افتتاح مؤتمر باندونغ رمزا لصعود الدول المستقلة حديثا الى المسرح السياسي العالمى وانتهاء عهد هيمنة الدول الغربية الكبرى على الشئون الدولية وفتح صفحة جديدة فى تاريخ العلاقات الدولية.
رفع مؤتمر باندونغ الستار عن حركة عدم الانحياز. وكان زعماء الدول الداعية الى عقده والمشاركة فيه مثل الرئيس الاندونيسى الراحل سوكارنو ورئيس الوزراء الهندى الراحل جواهر لال نهرو والرئيس المصرى الراحل جمال عبد الناصر ورئيس الوزراء الميانمارى الراحل ونو والملك الكمبودى نوردوم سيهانوك كانوا المقترحين والقادة الرئيسيين لحركة عدم الانحياز، واصبحت الدول ال29 المشاركة فى المؤتمر اعضاءا رئيسيين لحركة عدم الانحياز. وفى الوقت نفسه، اعتبرت مبادئ مؤتمر باندونغ الداعية الى السلم والاستقرار اساسا لمبادئ حركة عدم الانحياز المتمثلة فى السلم والحياد وعدم الانحياز. ويعتبر هدف حركة عدم الانحياز امتدادا وتطورا لروح باندونغ. ويمكن القول ان مؤتمر باندونغ ارسى الاساس التنظيمى والفكري لحركة عدم الانحياز. واصبحت دول العالم الثالث التى قوامها دول عدم الانحياز القوة الرئيسية لمعارضة هيمنة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق القوتين العظميين على العالم وسياساتهما التوسعية والحربية وحماية السلم العالمى. ويمكن القول الى حد ما ان مؤتمر باندونغ كان بداية لنهوض دول العالم الثالث باعتبارها قوة سياسية عالمية تستقل عن الكتلتين الكبريين الشرقية والغربية ومقدمة لتحطيم هيكل القطبية الثنائية وبدء المسيرة العالمية المتعددة الاقطاب.
2- اغنت وطورت المبادئ العشرة الناتجة عن مؤتمر باندونغ المبادئ الخمسة للتعايش السلمى وقوت القاعدة القانونية للعلاقات الدولية الحديثة المعاصرة.
تتضمن المبادئ العشرة عدم الاعتداء على سيادة الدول وعدم التدخل فى الشئون الداخلية والمساواة بين كافة الدول، كبيرة كانت ام صغيرة وصيانة العدالة الدولية وحل النزاعات الدولية عبر وسائل سلمية والاحترام المتبادل والتعاون المتبادل المنفعة والتعايش السلمى. وتعتبر هذه المبادئ مبادئ مثالية لمعالجة العلاقات بين مختلف الدول وضمانا قانونيا واخلاقيا لاقامة العلاقات الدولية الحديثة، وهى ما وضع حدا للقوانين والاعراف الدولية القديمة التى كانت اساسا للنظام العالمى القديم.
وجاء اختيار هذه المبادئ كأساس قانونى لاقامة العلاقات الدولية الحديثة لانها مختلفة جذريا عن مبادئ القوانين والاعراف الدولية القديمة، ويمكن تلخيص الاختلاف فيما يلى:
اولا: وضعت القوانين والاعراف الدولية القديمة من قبل الدول الاستعمارية والامبريالية بهدف تنسيق المصالح والعلاقات بين الدول الغربية القوية وخدمتها فى اقتسام العالم "بصورة منتظمة" واقتسام الغنائم بشكل سلمى. اما المبادئ العشرة فوضعتها الدول المستقلة حديثا وعكست الارادات والطلبات المشتركة لهذه الدول والمتمثلة فى معارضة التدخل والاعتداء الخارجيين وصيانة استقلال وسيادة الدول ومعارضة استئساد الدول القوية الكبرى على الدول المتوسطة اوالصغيرة والسعى وراء الحصول على المكانات والحقوق المتكافئة مع الدول القوية الكبرى بالاضافة الى معارضة السياسات التوسعية والحربية لهذه الدول وحماية السلم والامن العالميين، وهى فى خدمة اقامة علاقات دولية حديثة وحماية المصالح الجوهرية للمجتمع الدولى كله.
ثانيا: رغم ان القوانين والاعراف الدولية القديمة دعت الى احترام سيادة الدولة والمساواة وصيانة السلم وغيرها من المبادئ، غير ان الدول الكبرى حصرت نطاق تطبيقها فيما صنفته من"الدول المتحضرة" وليس"الدول غير المتحضرة"، وحرمت الدول والامم الضعيفة والصغيرة من حماية القوانين الدولية، مما اخضع الدول الضعيفة لاضطهادها. اما المبادئ العشرة فتخدم كافة الدول، وهى ملزمة لعموم المجتمع الدولى، كما هى ضمان لحماية الحقوق والمصالح الشرعية لكافة الدول وخاصة الدول المتوسطة والصغيرة.
ثالثا: تتمثل طبيعة القوانين والاعراف الدولية القديمة فى عدم المساواة بين مختلف الدول، وليس بين القوى الكبرى والدول الضعيفة والصغيرة فحسب، بل بين القوى الكبرى نفسها ايضا. اما المبادئ العشرة فتنص بوضوح على " الاعتراف بالمساواة بين كافة الاعراق والأمم والدول سواء أ كانت كبيرة ام صغيرة"، اى تدعو الى المساواة بين جميع الدول، قوية كانت ام ضعيفة، كبيرة ام صغيرة، غنية ام فقيرة امام القوانين والاعراف الدولية، وان تتمتع كافة الدول بالحقوق المتكافئة فى المشاركة فى الشئون الدولية والمكانة المتساوية على الصعيد الدولى.
رابعا: تعتبر القوانين والاعراف الدولية القديمة منطقا لقطاع الطرق يعطى الضوء الاخضر لاعتداء القوى الكبرى على الدول الاخرى. وزعمت بصورة سافرة ان الحرب التى شنتها القوى الكبرى لاحتلال المستعمرات شرعية وسمحت لهذه الدول باستخدام القوة او التهديد باستخدامها فى معالجة العلاقات الدولية، واعترفت بان "الاحتلال وارغام الدول المستعمرة على التخلى عن ارضها الوطنية" من "الوسائل الشرعية لامتلاك الاراضى"، انها فى الحقيقة"شريعة الغابة" السافرة المتمثلة فى كون الضعيف فريسة للقوى، اما المبادئ العشرة فنبذت شريعة القوة هذه واكدت "احترام السيادة وسلامة الاراضى لكل دولة"، ونصت بوضوح على " عدم الاعتداء او التهديد بالاعتداء او استخدام القوة للاعتداء على سيادة اى دولة والتدخل فى استقلالها السياسى"، فتعتبر ضمانا قانونيا لمعارضة العدوان والتوسع وصيانة استقلال وسيادة كافة الدول خاصة الدول المتوسطة والصغيرة.
خامسا: تعتبر القوانين والاعراف الدولية القديمة مادة محفزة للحروب، لم تعط الضوء الاخضر للحروب التى شنتها القوى الكبرى للاعتداء والاستيلاء على الدول والامم الضعيفة فحسب، بل زرعت جذور التصارع والتحارب بين القوى الكبرى ايضا. اذ ان حروب نابليون والحربين العالميتين الاولى والثانية نشبت بسبب عدم التوازن بين القوى الكبرى. اما المبادئ العشرة فوفرت للمجتمع الدولى السبل الاساسية والمعيار القانونى لتفادى الصراعات والحروب وحماية السلام الاقليمى والعالمى، وجاءت هذه المبادئ تلبية لمتطلبات عموم المجتمع الدولى وباتت عاملا مهما لتجنب الحروب